الحريات العامة وحقوق الإنسان

الحريات العامة وحقوق الإنسان

القائمة البريدية
06 أغسطس, 2023

“سياحة القتل” في سراييفو

18 نوفمبر, 2025
جانب من متحف الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في العاصمة البوسنية سراييفو (الأناضول)

جانب من متحف الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في العاصمة البوسنية سراييفو (الأناضول)

د. كريم الماجري *

بعد ثلاثة عقود على انتهاء حرب البوسنة والهرسك، تفجّرت “فجأة” واحدة من أكثر القضايا فظاعة وغرابة في تاريخ النزاعات الحديثة: “رحلات صيد البشر”، حيث يُعتقد أن أجانب من أوروبا بالأساس دفعوا خلالها مبالغ مالية لقتل مدنيين بوسنيين من مواقع قنص في سراييفو خلال حصار المدينة الذي امتدّ زهاء أربع سنوات متواصلة.

لا تعيد هذه الفضيحة، التي انفجرت في إيطاليا عبر مكتب المدعي العام في ميلانو وأُعيد تسليط الضوء عليها إعلاميا، للأذهان فتح جروح الذاكرة البوسنية فقط، بل تحرّك أيضا المياه الراكدة في النظام القانوني الإنساني الدولي وتكشف ثغراته العميقة أمام “جرائم هجينة” تجمع بين الترفيه الدموي، والسياحة الحربية، وتحويل قتل المدنيين إلى خدمة مدفوعة الأجر.

  1. جريمة خارج التصنيفات، أم داخلها؟

تطرح هذه القضية سؤالا جوهريا: هل تكفي التعريفات الحالية لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لاستيعاب هذا النمط من الانتهاكات؟ فالجريمة – كما قد يتضح مع تقدّم التحقيقات – ليست مجرد قتل متعمّد لمدنيين، بل تُكيّف قانونيا على أنها عمليات قتل منظّم، مدفوع الثمن، ومنفّذ بدافع المتعة أو الإثارة، أو التدرّب على القتل.

ينصّ القانون الدولي الإنساني، وخصوصا اتفاقيات جنيف ونظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، على تصنيف واضح للجرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسها:

  • القتل المتعمّد للمدنيين،
  • الانتهاكات الجسيمة للحماية الإنسانية،
  • الأفعال اللاإنسانية،
  • المشاركة في “مشروع إجرامي مشترك”.

وبينما قد لا تصنَّف قضية “سفاري صيد البشر” على الأرجح ضمن جرائم الإبادة لغياب النية الخاصة، إلا أنها تقع مباشرة داخل نطاق الجرائم ضد الإنسانية، لأنها جزء من نمط ممنهج لاستهداف المدنيين. أما الجديد هنا فهو البُعد “الترفيهي التجاري”.

  1. تداعيات على مفهوم “المقاتل غير الشرعي”

يتعامل القانون الدولي التقليدي مع الجناة باعتبارهم أطرافا في النزاع، أو متعاونين مباشرين معهم. لكن فضيحة صيد البشر تكسر هذه المعادلة، لأنها تشير إلى احتمال وجود مدنيين أجانب غير منتمين لأي قوة مسلّحة، وهم غالبا أشخاص يسافرون إلى منطقة حرب، بموافقة ضمنية من جماعات مسلّحة، ويمارسون “قتلا تعاقديا” بقصد الترفيه وليس بهدف المشاركة العسكرية.

ومن شأن هذا الانحراف القانوني فتح نقاش دولي حول ضرورة توسيع مفهوم “المقاتل غير الشرعي” ليشمل مفهوما جديدا وهو “السائح القاتل”، كما يفرض مراجعة موسّعة لتعريف “المرتزق”، إذ إن هؤلاء لا ينطبق عليهم التعريف التقليدي لكنهم يشتركون معه في الغاية التجارية.

  1. اختبار جديد لمبدأ الولاية القضائية العالمية

يمثل إقدام النيابة الإيطالية على فتح تحقيق في الموضوع – رغم مرور نحو 30 عاما– خطوة محورية في تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي يسمح للدول بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى حتى وإن ارتُكبت خارج أراضيها وضد ضحايا من غير مواطنيها. وفي حال استمرت هذه الخطوة فقد تفتح الباب أمام دول أخرى لإعادة، أو المبادرة، بفتح قضايا مماثلة. ورغم أن المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا السابقة أغلقت أبوابها، تظل القاعدة القانونية راسخة وهي أنّ جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

  1. خلل حاكم في نظام العدالة الدولي

تكشف هذه الفضيحة عيبين بنيويين في نظام العدالة الدولية، الأول هو ثغرة الجرائم “غير التقليدية”، حيث صِيغت الجرائم الدولية تاريخيا على أساس نماذج كلاسيكية تشمل القصف والتعذيب والتطهير العرقي والحصار والاغتصاب والترحيل…أما “سياحة القتل” أو تحويل المدنيين إلى أهداف ترفيهية، فهي ظاهرة حديثة ومروّعة لا تحضر بوضوح في النصوص القانونية. ويفرض هذا ضرورة تطوير تعريف جديد أو إضافة ملحق قانوني يجرّم “الأفعال اللاإنسانية لأغراض الترفيه أو المكاسب الشخصية أثناء النزاعات المسلحة”. أما الثغرة الثانية فهي فشل مؤسسات الحرب في الكشف المبكر عن الجرائم المحتملة.

وإذا صحّت الادعاءات، فهذا يعني أن هذه الجريمة استمرت سنوات داخل سراييفو المحاصرة دون أن توثّقها أجهزة الأمم المتحدة أو المراقبون الدوليون أو حتى التحقيقات اللاحقة للمحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا، وهو ما يكشف عن عجز هيكلي في القدرة على اكتشاف الجرائم “المخفية داخل الجرائم”.

  • أثر الفضيحة على القانون الإنساني الدولي

تفرض هذه القضية مراجعة قانونية شاملة لأربعة مبادئ جوهرية في القانون الدولي الإنساني:

أولاً – حماية المدنيين: تذكّرنا هذه القضية بأن حماية المدنيين ليست مجرد التزام نظري، بل نظام يحتاج إلى تحديث يواجه الأشكال الجديدة من العنف، بما فيها الجرائم “الترفيهية”.

ثانيًا – تعريف الفاعلين في النزاع المسلّح: الحدود الضبابية بين المقاتل والمرتزق والمتفرج المسلح أصبحت اليوم أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

ثالثًا – المسؤولية الفردية عبر الحدود: قد تصبح القضية مرجعا عالميا يُستشهد به لتوسيع نطاق ملاحقة الجرائم الدولية، خصوصا مع عودة النقاش حول جرائم الشركات والجماعات العابرة للحدود والجهات المدنية المموّلة للعنف.

رابعا – تعزيز العدالة الانتقالية: تُعيد الفضيحة التأكيد على أن العدالة في البوسنة لم تكتمل، فهناك طبقات من الجرائم لم تُكشف بعد، وهذا يفتح الباب أمام لجان تقص جديدة ومسارات أرشيفية موسعة.

اختبار أخلاقي للعالم… ولأوروبا تحديدا

القضية صادمة أخلاقيا، فهي تكشف أن الحرب لم تكن فقط ساحة للضحايا والجلادين، بل كانت مسرحا لسياحة قاتلة أوروبية أيضا، وهو ما يطرح أسئلة من قبيل من أين جاء هؤلاء؟ من سلّحهم؟ من سمح لهم بالدخول؟ ومن غضّ الطرف عنهم؟ وإذا ثبت تورط مواطنين من دول غربية، فإن على أوروبا مواجهة مسؤولية أخلاقية ثقيلة تتجاوز التحقيقات القضائية، وتمس خطابها عن “القيم الإنسانية” و”التحضّر الأخلاقي”.

نحو تعريف جديد للفظاعة

لا تمثل فضيحة “صيد البشر” مجرّد فصل مظلم في حرب البوسنة، بل جرس إنذار قانوني لقصور المنظومة الحالية عن مواجهة الجرائم الهجينة. فهي تدفع نحو تطوير إطار قانوني دولي يجرّم “سياحة القتل”، ويضمن ملاحقة مرتكبيها بلا حدود زمنية، ويعزز آليات الولاية القضائية العالمية. وفي حال تحقق ذلك، يمكن لهذه القضية أن تصبح محطة مفصلية في تطور القانون الإنساني الدولي، تماما كما شكلت سريبرينيتسا لحظة فارقة في إعادة تعريف الإبادة الجماعية في أوروبا.
——-

* باحث أول سابق في مركز الجزيرة للدراسات ومركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان

  • الأكـثر مشاهـدة
  • الـشائـع