أ.د. كمال جعلاب*
رغم مرور أزيد من قرن على صدور قانون 1905 الذي أقرّ مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا، إلا أن العلمانية التي رسّمها هذا القانون مازالت محل جدل ونقاش بين الفرنسيين عبر مستويات عدّة، سواء على مستوى التنظير الفلسفي للفكرة العلمانية من خلال التشكيك في سلامتها ومعقولية مبرراتها، أو حتى على مستوى التطبيق القانوني للمبدأ العلماني الذي أصبح مبدأ منافساً للحريات الدينية بدل أن يكون ضامناً لها كما يزعم أنصار العلمانية الفرنسية.
تظهر العلاقة بين العلمانية والحرية الدينية كإحدى أكثر الإشكالات التي تُطرَح في حقل القانون في فرنسا. يتعلّق هذا الإشكال بما إذا كانت العلمانية كمبدأ دستوري تتكامل مع الحرّيات الدّينية أم أنها تتعارض معها. ولذلك، فإنه من المفيد استعراض خلفيات ومظاهر التوتر بين العلمانية والحريات الدّينية من حيث التأسيس الدستوري والتنظيم القانوني، ومن حيث المحاولاتُ الفاشلةُ لحدّ الآن من قبل القضاء الإداري في التوفيق بين المبدأين.
أولا: أولوية المبدأ العلماني على الحريات الدينية في الدّستور والقانون وأمام القضاء
تمثّل العلمانية في فرنسا مبدأ أساسياً وقيمة من قيم الجمهورية. يؤكّد ذلك نص المادة الثانية من الدستور التي حدّدت هوية فرنسا باعتبارها “جمهورية غير قابلة للتجزئة وعلمانية وديمقراطية واجتماعية”، ويمكن الاستنتاج من خلال التأكيد المتكرر في الدّستور وفي القانون وحتى في الخطاب الرّسمي أن العلمانية هي القيمة الرابعة التي يضيفها الفرنسيون ضمنياً إلى القيم الثلاث لجمهوريتهم: الحرية، المساواة، والأخوة.
كانت المدرسة حلبة الصّراع الأساسي في فرنسا بين الجمهوريين الذين تبنوا المبدأ العلماني، وبين الكنيسة التي ظلّت محتفظة ببعض النفوذ حتى بعد الثورة، وقد نجح الجمهوريون في إقرار علمانية التعليم بموجب قانون 28 مارس/ آذار 1882، لكن الانتصار الذي توج العلمانية كمبدأ قانوني شامل تمثّل في صدور قانون الفصل بين الكنيسة والدّولة في التّاسع من ديسمبر/ كانون الأول 1905.
في مقابل ازدهار العلمانية في فرنسا، فإن الحريات الدينية لم تحظ بنفس الاهتمام على مستوى الدستور والتشريع، وحتى إعلان الحقوق والمواطن سنة 1789 الذي يعدّ المصدر التاريخي لمنظومة الحقوق والحريات في فرنسا، والتتويج القانوني لانتصار الحرية على الملكية المستبدة، فإنه تجاهل النّص صراحةً على الحرية الدينية، وعلى حرية المعتقد. وربما يمكن تفسير هذا الموقف المتحفظ منذ البداية تجاه الحريات الدّينية بأنه كان يُنظر إلى الدّين والكنيسة بوصفهما عدويْ الثورة الفرنسية الذين تحالفا مع الملك ومنحا الشرعية لسلطته المطلقة. مع ذلك، فإن الإعلان نصّ على ضمان ألاّ يُضَار أحدٌ بسبب آرائه، بما فيها معتقداته الدينية طالما أن تجلياتها لا تمس بالنظام العام كما يحدّده القانون. وهكذا، فإن كلّ المنظومة الدستورية والقانونية في فرنسا وضعت المبدأ العلماني الذي أصبح يشغل كل مفهوم النّظام العام في مواجهة الحرية الدينية وليس كمرادفٍ لها، فالنظام العام الذي تتكرر الإحالة إليه في كل نص على الحقوق والحريات ليس شيئاً آخر في الحقيقة سوى العلمانية.
لا تتعلّق أزمة العلمانية الفرنسية في بُعدِها القانوني فقط في اختلال علاقتها مع الحريات الدّينية، بل كذلك في مقاربتها لحريّة التعبير وتجاوزاتها تجاه الأديان والمعتقدات التي يُفترض أن لأتباعها الضّمانة الدّستورية لحماية معتقداتهم من أي ازدراء أو إهانة، خصوصاً وأن النظام القانوني الفرنسي يعترف بحق انتقاد الأديان بوصفه عنصرا من الحق العام في الرأي والتعبير.
كانت قضية نشر مجّلة فرنسية رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم سنة 2006 إحدى أهم القضايا التي طُرحت فيها إشكالية العلاقة بين حرية التعبير والحرية الدّينية بحدّة في فرنسا، وقد أقامت منظمات إسلامية وقتها دعوى لمتابعة جزائية ضدّ المجلّة مدعيةً أن هذه الرسوم تشكّل جريمة إهانة جماعية للمسلمين، في حين تمسّكت المجلّة بحقوق الرأي والتعبير والحقّ في انتقاد الأديان.
ذهب القاضي في خلاصته في هذه القضيّة بأن فرنسا هي مجتمعٌ علماني تعددي يحترم الحرية الدينية جنباً إلى جنب مع احترام حرية انتقاد الأديان من أي نوع، وانتهى إلى الحكم بأنه لا مجال للمتابعة الجزائية في هذه القضية، مؤسّساً حكمه بأنه على الرغم من “الطّبيعة الصّادمة وحتى الجارحة لهذه الرسوم”، فإنها في ظلّ الظروف والسّياق الذي نُشرت فيه لا تتضمن أيّة نيّة إساءة متعمّدة بشكلٍ مباشر وغير مبرّر للمسلمين، وأنها ساهمت في “نقاشٍ عمومي ذي فائدة عامة في موضوع تجاوزات “المسلمين الذي يرتكبون أعمالا إجرامية”.
معيار عنصري
يعترف القاضي إذاً بأن الرّسوم كانت “جارحة وصادمة” لمشاعر طائفة دينية يُفترَض أنها تتمتع بالحماية القانونية التي يوفرها مبدأ علمانية الدولة، لكنه اعتمد على معيار عنصري في اعتبار أن ما قامت به المجلّة من نشر الرسوم يساهم في نقاش عمومي حول “المسلمين المتعصبين” الذين يرتكبون جرائم باسم الدّين، في حين أن الرسوم استهدفت بشكلٍ شخصي ومباشر النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم الذي يمثّل قيمة مقدّسة لجميع المسلمين، والإيمان به وبنبوّته يُعتبر ركناً أساسياً في الإسلام، وهو ما يعني أن المساس به يُعتبر مساساً بالدّين الإسلامي، وبكلّ مسلم مهما كانت توجهاته.
من جهةٍ ثانية، فإن حكم القاضي الجزائي بتبرئة المجلّة من إهانة وازدراء معتقدات المسلمين يتعارض مع ما استقرّت عليه السّوابق القضائية المدنية في فرنسا التي اعترفت بأنه للجمعيات التي يتمثل هدفها الاجتماعي في تعزيز وحماية قيم دينية معينة، مصلحة مشروعة في اتخاذ إجراءات ضدّ المطبوعات التي، وفقًا لها، تقوّض المشاعر الدّينية لأعضائها.
ثانيا: المجال العام والمجال الخاص: حلبة صراع المبدأ العلماني مع الحرية الدينية
تقوم الفكرة العلمانية الفرنسية في مظهرها القانوني على قاعدة التمييز بين مجالين هما: المجال العام للدولة، والمجال الخاص بالأفراد. يُعدّ المجال العام نطاق تطبيق المبدأ العلماني بحيث يجب أن يكون خالياً من أية مظاهر دينية بما يضمن حياد الدولة. وبالتالي، فإن القوانين المتعلّقة بهذا المبدأ تهدف إلى “قمع” كل سلوك ورمز ديني ضمن هذا المجال.
لكن مفهوم الحياد في المجال العام يجب أن يقتصر فقط على دور سلبي للدولة في عدم التدخل عبر فرض دين ما أو تفضيله، وضمان أن كلّ الأديان تحظى بمعاملة قانونية متساوية. ولذلك، فإن الدّولة المحايدة هي التي تقبل بمجتمعٍ متعدّد دينياً كما هو ولا تجد مشكلة في منح المواطنة للأفراد الذين يضيفون إلى انتمائهم الوطني بوصفه انتماء مدنياً انتماء دينياً لعقيدة معينة باعتباره شأنا خاصاً بهم لا بها، لكن الجمهورية الفرنسية لا تقبل بذلك، فهي تسعى لتجسيد قيمها الثلاث عبر إقصاء مظاهر الانتماء الدينية والعرقية الأخرى، وعدم السّماح للفرد ببناء أية علاقة انتماء خارج علاقته المدنية بالدولة.
دخلت القضايا المتعلقة بصراع حرية الدين في مواجهة المبدأ العلماني ساحة القضاء الإداري في فرنسا منذ سنة 1989، حيث أخطر وزير التربية وقتها مجلس الدّولة (الهيئة القضائية الإدارية الأعلى في البلاد) لإبداء رأيه حول ما إذا كان ارتداء رموز تدلّ على الانتماء إلى طائفة دينية يتوافق مع مبدأ العلمانية، وقد أجاب مجلس الدّولة بأن ارتداء التلاميذ رموزا دينية لا يتعارض في حدّ ذاته مع مبدأ العلمانية من حيث إنها تمثّل ممارسة لحرية التعبير، والتعبير عن المعتقدات الدينية. لكن هذه الحرية لا تسمح للطلاب بحسب المجلس بأن يمارسوا التبشير أو الدعوة لدين معيّن، أو أن تكون وسيلة مفاخرة أو ضغط أو إكراه للآخرين بما يمسّ بحقوقهم، أو يؤثر على سير وانتظام مرفق التعليم.
وبين سنتي 1991 و1999، حكم مجلس الدّولة في 41 قضية من أصل 49 نظر فيها ضدّ المدارس التي عاقبت الفتيات المسلمات بسبب ارتدائهن الحجاب، وعادت قضية الحجاب للاندلاع مجدّدا في سنة 2004 بسبب صدور قانون 15 مارس/ آذار 2004 الذي حظر اتخاذ رموز دينية ظاهرة في المؤسّسات المدرسية العمومية. واستمرت فرنسا في سياستها التشريعية القائمة على إخلاء المجال العمومي من أي مظاهر دينية، متسلّحة في ذلك بسلطة القانون، حيث إنه وبعد ستّ سنوات من صدور قانون 2004 الذي حظر اتخاذ رموز دينية في المجال العمومي صدر قانون آخر سنة 2010 يحظر تغطية الوجه في المجال العمومي.
يعود سبب احتكار الدولة للمجال العام ومنع أي مظاهر للتدين فيه إلى افتراضٍ مُسبَق بأن إظهار رموز دينية في هذا المجال يُفسّر على أنه نوع من التبشير أو الدعوة للدين، وهو ما يخلّ في نظر القانون بحياد الدّولة ويمسّ بالحريات الدّينية للآخرين. مع الإشارة إلى أنه حتى بالنسبة للتبشير أو الدعوة لدين معيّن فإنها تمثّل أصلا حقاً من الحقوق الأساسية، إذ عرّفت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التبشير بوصفه حقا في التعبير لإقناع الغير، كما أن هذا الحق يتفرّع عن الحق العام الذي تحميه المادة التّاسعة من اتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المتعلقة بحرية الفكر والمعتقد والدين.
عادت قضية التمييز بين المجال العمومي والمجال الخاص للاندلاع مرّة أخرى سنة 2016 أمام القضاء عندما أصدر رئيس بلدية نيس قرارا يحظر دخول الشاطئ على أي شخص لا يرتدي “الزي المناسب بما يتوافق مع المبدأ العلماني”، وقد كان المقصود تحديدا النّساء المسلمات اللاتي دخلن الشاطئ بلباسٍ يغطي كل الجسم والرأس وعُرف هذا اللباس وقتها بالبوركيني.
كان موقف القضاء الفرنسي ممثلا في محكمة نيس حاسماً لصالح حماية “المبدأ العلماني” واعتبار الشاطئ مجالا عمومياً علمانيا يجب أن يكون “محايدا”، على أن مجلس الدولة الفرنسي باعتباره درجة الاستئناف في القضايا الإدارية اتخذ موقفاً مغايرا لموقف محكمة نيس وحكم بإلغاء قرار رئيس البلدية، وأسّس قضاة المجلس قرارهم “التّاريخي” بأن أيّة إجراءات يتخذها رئيس البلدية في إطار مهام الضّبط الإداري يجب أن تتعلّق فقط بضرورات حفظ النظام العام ولا يمكنه أن يستند على اعتبارات أخرى، ولذلك فإن أيّة قيود على الحريّات يجب أن تكون مبرّرة بمخاطر مُثبتة للإضرار بالنّظام العام.
تجدّد الجدل مؤخرا بشأن حماية علمانية الدولة وعلاقتها بالحريات الدّينية عندما أصدرت وزارة الزراعة والغذاء الفرنسية في 23 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 تعميما وُصف بأنها “تقني” يضع شروطاً على المسالخ العمومية والخاصة تهدف إلى مراعاة تخفيف الألم على الدّواجن عند إماتتها، وعلى إثر ذلك، أعلنت ثلاث مساجد كبرى مُرخصٌ لها إصدار شهاد الذبح الحلال بأن تطبيق الشروط التي يفرضها التعميم لا يهيئ الظروف الملائمة للذبح وفق الأصول الإسلامية.
يمكن الاستنتاج إذاً بأنه على الرغم من أن الفرنسيين يطرحون العلمانية على طريقتهم باعتبارها مرادفاً للحرية الدينية، إلا أنها تقف على الطرف النقيض من الحرية. من الناحية القانونية، تعبّر العلمانية عن مبدأ سلطوي في مقابل الحريات الفردية والجماعية. إنها تتعلّق بمبدأ تنظيم المجتمع وتوحيده حول قيمة إيديولوجية تجد تجسيدها القانوني في مفهوم النظام العام “العلماني” الذي يشكّل إطارا يحدّد مساحة ممارسة الحرية، ولا يمكن أن يكون بالتالي مرادفاً ولا ضامناً لها.
إن هذا التحليل القانوني يعكس في الحقيقة تحليلا فلسفيا شائعا للعلمانية باعتبارها “ديناً مدنيا” أو “معتقدا” تؤمن به الدولة وتسعى إلى فرضه على الأفراد في مجالها العمومي الذي يُفترض أنه مجالٌ مفتوح للكل وغير مستثنى من ممارسة الحقوق والحريات، أو على الأقل أنه مجالٌ محايد، وقد يكون للدولة الحق في تنظيم هذه الممارسة لضمان ممارسة حقوق أخرى أو لضمان النظام العام المادي، ولكن ليس لاستهداف عقائد الأفراد عبر فرض قيم العلمانية المنافسة.
———-
*بروفيسور في القانون، مختص في القانون الدستوري، أستاذ القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية بجامعة الجلفة بالجزائر
- الأكـثر مشاهـدة
- الـشائـع