أحمد سالم بوحبيني*
بوصفي أحد المشاركين في المؤتمر الدولي حول العدالة الغذائية المنظم في الدوحة، من 6 إلى 7 فبراير/شباط 2024، من قبل اللجنة الوطنية لحقوق الانسان بقطر، كنت شاهدا على نقاشات مثمرة حول الحق في الغذاء، وهو حق إنساني أساسي، ظل منتهكا جراء التفاوتات الصارخة والأزمات المستمرة، بالرغم من وفرة الأغذية في العالم.
لقد سلط هذا المؤتمر الضوء على الحاجة الملحة للاعتراف بحق التغذية للجميع، داعيا إلى تضامن عالمي في وجه التحديات التي فاقمتها الأزمات الصحية العالمية مثل كوفيد 19، كما فاقمتها الصراعات وإغلاق الحدود، في ظل واقع عالمي تعيش فيه بعض زوايا المعمورة وفرة وفائضا، بينما تعيش زوايا أخرى نقصا حادا ومجاعات متكررة!!
إن التزام قطر بتعزيز التوزيع العادل للغذاء مسألة تُشكر إذ تبرهن على ريادتها في البحث عن حلول ملموسة لما تعانيه البشرية من معضلات تتعلق بالطعام والمأكل.
لقد عشت، صدفة وبصفة غير متوقعة، جوهر هذا التضامن وهذا التفاني من أجل قضية العدالة الغذائية، ليس داخل مكان المؤتمر، لكن من خلال خطأ بسيط في تحديد الموقع والوجهة، وذلك حين دُعيت، مع صديقي التونسي عبد الباسط بن حسن، رئيس المعهد العربي لحقوق الانسان، لمأدبة عشاء أقامها، كعادته، الأمينُ العام للجنة الوطنية لحقوق الانسان في قطر، السيد سلطان بن حسن الجمالي، فقادنا خطأ في نظام الـ”جي بي أس” عند سائقنا إلى باب رجل لا نعرفه ولا يعرفنا بدلا من باب مضيفنا الحقيقي.
دخلنا منزلا فخما، ودلفنا إلى صالون جميل. وبتواضع وكرم لا نظير لهما، تم استقبالنا على وقع أكؤس القهوة وأقداح الشاي العربي وألسنة دخان العود والعنبر. وما هي إلا ثوانٍ حتى قُدم لنا القِرى بوفرة تتجاوز كل التصورات وبلباقة تذكّر بالخيمة العربية الأصيلة كما رسمتها المخيلة التاريخية.
عندما فهمنا أننا أخطأنا في وجهتنا وفي مضيفنا، دعانا “مضيفُ الصدفة”، الذي طرقنا بابه خطأ، إلى البقاء حتى نتناول العشاء بدلا من توديعنا، مجسدا بذلك كل المعاني السامية لإكرام الضيف والحفاوة بعابر السبيل كجزء لا يتجزأ من منظومة القيّم العربية التليدة.
لقد أظهرت هذه التجربة الشخصية عمق التشبث القطري بكرم الضيافة وحسن الاستقبال، وهي مُثُل تتناغم مع أهداف المؤتمر الذي استحق القطريون تنظيمه بجدارة لأنه يتماشى بالفعل مع ثوابتهم التاريخية في العطاء بسخاء لكل من يحتاج وكل من يستحق.
كانت دعوتنا لتقاسم الوجبة، بالرغم من غلطتنا في تحديد وجهتنا، لفتة بسيطة، لكنها قوية بما ترمز إليه من تجسيد لتحقيق التضامن من خلال كرم الضيافة كممارسة يومية.
إن عفويةً من هذا القبيل، فضلا عن تأثيرها الفوري، تؤكد أن المبادئ التي نوقشت خلال مؤتمر العدالة الغذائية المنظم في الدوحة هي ذات المبادئ القطرية التي يمارسها القطريون يوميا وبعفوية. ومن هنا نستشف أن التضامن الضروري لمحاربة الظلم في توزيع الغذاء عالميا، يبدأ بالاعتراف بتوزيع قيمنا الإنسانية بعدالة عن طريق الحفاوة وحسن الاستقبال.
لا شك أنني أسعى، من خلال هذه الورقة، إلى الإشادة بالضيافة الاستثنائية لمضيفنا بالصدفة، السيد عبد اللطيف بن خالد المانع، لكنني أؤكد أيضا من خلالها على مدى الأهمية الفائقة لمؤتمر العدالة الغذائية، فالتجربة التي عشتها شخصيا في الدوحة تحدو بنا إلى استيعاب ضرورة التضامن لضمان حق التغذية للجميع، كما كشفت عنه قطر بامتياز.
وفي الختام، وبينما نبحث عن حلول للتفاوتات الغذائية العالمية، اتركونا نستلهم من المثال القطري: أولا من خلال دور البلد في النقاشات الدولية حول العدالة الغذائية وما تضمنه مؤتمرها من حلول رائعة، وثانيا من خلال التعبير اليومي للتضامن الذي يجسده المواطنون القطريون بما تربوا عليه من استعداد لعون الآخرين عموما والغرباء خصوصا. فمن خلال أعمال من ذلك القبيل يمكننا أن نأمل في بناء مستقبل يصبح فيه الحق في الغذاء واقعا معيشا.
—————————————-
* رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بموريتانيا، محام لدى هيئة المحامين بباريس- فرنسا، نقيب المحامين الموريتانيين سابقاً، الرئيس السابق للشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان
- الأكـثر مشاهـدة
- الـشائـع