محمد غلام محمدو- ترتر
في ذعر وارتباك وتعلثم، وهو يستعيد تلك اللحظات المأساوية في حياته؛ بدأ “ودادي ممّد” يسرد قصته مع انفجار لغم أرضي بجسمه، وكأنه وقع للتو.
لم تقصر آثار اللغم على تهشيم رجله وإلحاق إصابات بالغة بمناطق واسعة من جسمه، خصوصا في البطن والظهن وما حولهما، وتدمير أحلامه، بل عبثت كما يبدو بجوانب مهمة من نفسيته كما يقول.
ووسط تنهدات بين كل كلمة وأخرى، وهو مستلق بمكاتب إحدى المنظمات الداعمة بمحافظة ترتر غربي أذربيجان، شرح لنا “ممد” ذو الـ50 عاما كيف ارتطم رفيقه بلغم بشكل مباشر وتوفي على الفور، بينما نجا هو من الموت المحقق رغم ما لحق به من إصابات بالغة.
ويقول وهو يصف الحادثة التي وقع ضحيتها عام 1992 بمنطقة سندرام التي ما زالت تحت الاحتلال الأرمني “أصبت بذعر شديد وبدأت أحس بآلام حادة، ثم فقدت الوعي”.
كشط جلد واقتطاع لحم
وتبلغ مظاهر الارتباك أوَجَها وهو يستعيد ذكرى عمليات الترميم التي خضع لها جسمه ومنها كشط جلده واقتطاع حزم من اللحم من أفخاذه ووركيه لسد أخاديد غائرة في رجله المصابة.
ولا تختلف حالة “ممّد” عن آلاف غيره هنا، في ترتر غرب العاصمة باكو بنحو 327 كيلومترا، أو في مناطق قرة باغ الأخرى، ومن هؤلاء الشاب أزاد حسنوف وقد التقيناه بقرية حسن قايا التابعة للمحافظة.
وسرد لنا حسنوف (27 عاما) كيف ارتطمت رجله بلغم أرضي بينما كان يرعى أغنامه قرب القرية في يونيو/حزيران 2020، ويقول إن لغما انفجر ابتداء في إحدى الماعز وإنه ظنه هجوما مدفعيا، حيث اختبأ ثم عاد ليرتطم هو نفسه بلغم آخر، ويقول “أحسست أني أموت.. سالت دماء كثيرة وفقدت الوعي وأمضيت ثلاثة أشهر في المستشفى”.
وأسفر الانفجار عن تهشيم إحدى رجليه وعن إصابات بالغة بمناطق من جسمه. وقد أجريت له عملية في باكو لتركيب رجل اصطناعية ما شعر يوما بالراحة معها.
أرقام
وقد أسفرت الألغام والذخائر غير المتفجرة منذ نهاية الحرب الأخيرة في قرة باغ عام 2020 عن مقتل 32 مدنيا وإصابة أكثر من سبعين. ومنذ نهاية تلك الحرب، أبطلت الحكومة مفعول 67 ألفا من الألغام والذخائر العسكرية غير المنفجرة في الأراضي المحررة.
وقبل أيام صرح رئيس مجلس إدارة الوكالة الأذربيجانية لنزع الألغام، فوغار سليمانوف، بأن مؤسسته طهرت بعد الحرب الأخيرة أكثر من 50 ألف هكتار من الألغام.
وترجِّح الحكومة الأذربيجانية وجود أكثر من مليون، حتى الآن، في باطن الأرض، خصوصا بمناطق ترتر وأغدام وشوشه وخوجاوند وفوزولي وقبادلي وجبرائيل وزنكيلان.
وإلى جانب الحكومة الأذربيجانية، في حربها المستعرة ضد الألغام، تنشط أربع منظمات مجتمع مدني في تلك الحملات ومن أبرز هؤلاء مؤسسة أوراسيا الدولية التي بدأت عمليات تطهير الألغام منذ عام 2000، وفق ما يقول مدير مكتبها الإقليمي أوغوز ميرزاييف. ويتوفر ذلك المكتب اليوم على 80 موظفا، وللمؤسسة عمليات شراكة مع عدد من المنظمات الدولية.
انحراف المسارات
ويقول مدير العمليات في المكتب الإقليمي للمؤسسة، شاهين الله فودية، إن فرق منظمته أبطلت مفعول 1112 لغما مضادا للدبابات و1160 ضد الأفراد، ثلثا الصنفين بعد الأخيرة نهاية 2020.
ويضيف أن بعض تلك الألغام طُمر في الأرض أثناء الحرب الأخيرة كما يبدو، وأن بعضها الآخر طمر بداية التسعينات من القرن الماضي أثناء وبعد الحرب الأولى، حيث “بدأت تتآكل بفعل عوامل التعرية وتنجرف عن مساراتها بفعل السيول وأضحت أصبح خطورة”.
وبحسب فودية فإن عمل مؤسسته لم يقتصر على الألغام، بل أيضا الصواريخ وذخائر الدبابات والمدافع.
ويلفت فودية إلى كثافة الألغام المزروعة، ويقول إنها تصل في بعض الأحيان إلى سبعة أو ثمانية في المتر المربع الواحد، وفي خطوط الجبهة أحيانا إلى 10 أو حتى 15 في المتر المربع الواحد.
مشاهدات
وأثناء تجوالنا في المناطق الواقعة غرب ترتر باتجاه الحدود الأرمنية، وسيْرنا على طريق معبد أقيم بعد الحرب الأخيرة بعد عمليات مسح وتطهير أسفرت عن مقتل وإصابة العديد من العمال، لاحظنا كثافة عالية لحقول الألغام على جانبي الطريق.
وتنبأ تلك الأرقام المفزعة عن مدى انتشار الألغام في الأراضي المحررة، والحرب المستعرة التي تشنها الحكومة والمجتمع المدني في أذربيجان ضد الألغام، للسماح بعودة النازحين لديارهم، بأنه إذا كانت المعارك فوق الأرض قد انتهت مؤقتا، قبل تفجرها مجددا منذ يومين، فإن المعركة الكبرى لاقتلاع تلك الشرور من باطن الأرض قد بدأت للتو وأنها لن تنتهيَ بين يوم وليلة.
- الأكـثر مشاهـدة
- الـشائـع