في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، تستمر شوارع القطاع في احتضان جثامين أبنائها، شاهدة على ألم لا يُحتمل وعائلات ما زالت تنتظر لحظة وداع تليق بأحبائها.
آمال الأسود، من حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، تواصل يوميا زيارة قبري زوجها سامي وصهرها مصطفى، اللذين دُفنا بساحة ملعب كرة قدم خلف منزلهما، بعدما لقيا حتفهما بغارة جوية إسرائيلية في يناير/كانون الثاني 2024.
آمال، وهي أم لثمانية أبناء، تجلس قرب قبر زوجها، تحدثه بصوت يملؤه الشوق، وتخنقه الدموع: “إن شاء الله تكون سامعني”. وتضيف آمال بحزن: “زوجي خرج لمساعدة شقيقته في جلب بعض الأغراض من بينها ببلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، وكان صهري يرافقه. لكن في طريق عودتهم، استهدفتهم طائرات الاحتلال بصاروخ، فاستشهدا معا”.
وعندما تعذر على العائلة الوصول إلى المقابر الرسمية بسبب القصف المتواصل من قبل الجيش الإسرائيلي وتعمده قطع الطرقات وتدمير البنى التحتية واستهداف المدنيين، لم تجد آمال وأقاربها مكانا سوى ساحة ملعب خلف المنزل لدفن أحبائها.
ومنذ بداية حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لجأ كثيرون مثلها لدفن الشهداء في مقابر مؤقتة وسط الشوارع، وفي ساحات المنازل والملاعب، وحتى على الأرصفة، وغيرها من المرافق.
هذه المقابر العشوائية باتت رمزا للمأساة الإنسانية المتفاقمة بالقطاع.
ووفقا لإحصائية صادرة عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في سبتمبر/ أيلول الماضي، فإن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة خلفت أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية لاحتضان جثامين من قضوا تحت نيران قصفها المتواصل.
حلم مؤجل
ومع مرور عام على حرب الإبادة، لا تزال كثير من عائلات شمال غزة تنتظر فرصة نقل جثامين أحبائها إلى مقابر تليق بهم، لكنها تصطدم بعدة عقبات، من بينها اكتظاظ المقابر الرسمية، وصعوبة التنقل في ظل استمرار القصف والدمار.
آمال كانت قد قررت، قبل أشهر، نقل جثماني زوجها وصهرها إلى مقبرة رسمية، لكنها تراجعت بعد إصرار ابنتها النازحة إلى جنوب قطاع غزة على أن يبقيا كما هما حتى تتمكن من العودة لوداعهما.
تقول آمال: “الأفضل هو الدفن في مقبرة رسمية، لكن بعض الأهالي يخشون نقل الجثامين الآن بسبب الظروف الأمنية أو انتظارا لعودة النازحين”.
وتشير إلى أن كثيرا من القبور العشوائية المؤقتة ما زالت منتشرة في شوارع غزة وبين البيوت.
ملاعب تحولت لمقابر
في حي الشيخ رضوان، تحول ملعب “التوحيد” إلى مقبرة عشوائية مؤقتة منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية.
محمود أبو فول، أحد سكان الحي، يروي ما حدث، قائلا: “لم يتمكن الناس من الوصول للمقابر الرسمية لدفن الشهداء بسبب استهداف الاحتلال للطرقات والأهداف المتحركة في شمال القطاع، فتوجهوا إلى الملعب”.
ويقول: “دُفن نحو 250 شهيدا هنا، وما زالت معظم جثامينهم في مكانها حتى اليوم”.
يضيف محمود: “نقل الجثامين بعد هذا الوقت يحتاج إلى فرق مختصة وتكاليف كبيرة، والأهالي اليوم بالكاد يستطيعون توفير أساسيات الحياة”.
تهديد الكلاب الضالة
ليس فقط خطر القصف هو ما يواجه أهالي غزة، بل أيضا تهديدات من نوع آخر.
إبراهيم المصري، النازح مع عائلته من بلدة بيت حانون إلى مخيم جباليا للاجئين شمال غزة، اضطر لدفن شقيقه محمود، الذي قُتل إثر إصابته بشظايا قذيفة مدفعية أطلقها الجيش الإسرائيلي، في أرض زراعية بعدما تعذر عليه الوصول للمقبرة الرئيسية.
وفي حديث للأناضول، يقول المصري: “جثمان شقيقي لا يزال هناك منذ ديسمبر/كانون الأول بسبب صعوبة الوصول للمقبرة الرسمية في بيت حانون لإعادة دفنه هناك”.
ويضيف: “نزور القبر يوميا خوفا من الكلاب الضالة التي نبشت العديد من القبور بالشوارع”.
ويتابع بحسرة: “من حق كل ميت أن يُدفن بطريقة آدمية تحفظ كرامته، لكن ما يحصل في غزة عكس ذلك، حيث تنتشر جثامين الشهداء في الشوارع وعلى الأرصفة”.
ويعرب المصري عن أمنيته في أن تنتهي حرب الإبادة الإسرائيلية قريبا و”تعود الحياة تدريجيا لغزة بعد ما حل بها من دمار وموت، ونتمكن من دفن شقيقي بطريقة تليق به بوصفه شهيدا”.
إبادة مستمرة
تستمر حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة بدعم أميركي مطلق، تاركة وراءها أكثر من 138 ألف قتيل وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وعشرات الآلاف من المفقودين، وسط دمار شامل ومجاعة قاتلة.
وبينما تواصل إسرائيل تجاهل قرار مجلس الأمن الدولي بوقف هذه الإبادة، ومطالبات محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لوقف الجرائم وتحسين الأوضاع الإنسانية بغزة، يعيش أهالي القطاع في مأساة مستمرة، لا تتوقف عند حدود الحياة، بل تتجاوزها إلى الموت أيضا.
- الأكـثر مشاهـدة
- الـشائـع