الحريات العامة وحقوق الإنسان

الحريات العامة وحقوق الإنسان

القائمة البريدية
تاريخ النشر: 06 أغسطس, 2023

ثقافة حقوق الإنسان. وبناء ما لا يبنى بالحجر!

تاريخ النشر: 4 أكتوبر, 2020

ثقافة حقوق الإنسان تختلف كثيرا عن غيرها فهي لا يمكن أن تقاس بالكم، ومخرجاتها لا تتوضح إلا بقياس الأثر، من خلال تقليل حجم الانتهاكات ونوعيتها .
#########################################

بقلم الدكتور/ محمد تركي العبيدي
خبير مستقل وعضو سابق في لجنة حالات الاختفاء القسري

يمثل تعزيز حقوق الإنسان أحد التزامات الدولة في هذا المجال، ويقع على عاتق الدولة أن تنمي قدرات موظفيها وجميع العاملين في مؤسسات الدولة وتنشر ثقافة حقوق الإنسان في أوساط الأكاديميين والطلبة والعاملين على إنفاذ القانون والقضاة والمحققين وغيرهم.
وقد وضعت كل اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقريبا فضلا عن الصكوك الأخرى المعنية بحقوق الإنسان إلتزاما على الدولة الطرف بنشر الاتفاقية والتدريب عليها في الأوساط المعنية بتطبيقها أو مراقبة التطبيق , وهذا الالتزام على الرغم من أنه غير واضح المعالم ولا يمكن قياسه بسهولة بمؤشرات حقوق الإنسان سواء من حيث الكم والنوعية لكنه لا يخرج عن إطر حسن النية في تنفيذ الاتفاقيات الدولية المقررة بموجب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات , وتضع الدول أطرا تنفيذية مختلفة ومتنوعة من حيث إعداد برامج التدريب أو طباعة الكتب والبوسترات أو المناهج الدراسية .
ورغم إشارة الدول إلى برامجها التدريبية ومناهجها الدراسية وجهودها التثقيفية بشكل مستمر وفي كل المناسبات، مازالت الانتهاكات مستمرة سواء لحالات فردية أو لمنظومة متكاملة. وما زالت مقومات حقوق الإنسان في تلك الدول في هبوط من حيث التطبيق والتصاعد في مؤشرات التقارير المقدمة حتى أصبحت الهوة لا تحتمل ولا يمكن السكوت عليها. وربما لا تكون تلك الأفعال عمدية أو نتيجة لأوامر من قيادة عليا فيها لكنها تستند إلى أسباب قد لا يفطن لها من يعمل بشكل طارئ في مجال حقوق الإنسان ولا يفهم المعادلة الرياضية التي تقوم ضمانات حقوق الإنسان لأن توجيه التدريب ونشر الثقافة سوف يكون للعاملين الفعليين في هذا المجال ممن أصبح عمرهم 25- 50 سنة أو أكثر، ولا نفكر كيف كانت السنوات التي انقضت من عمر الإنسان وعلى ماذا تربى هؤلاء وما هو مستواهم الثقافي ومن هم رفقاؤهم.
ومن جانب آخر فإن التدريب لوحده دون تنفيذ بقية الالتزامات المقررة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان سوف يضع الشخص المعني في وضع صعب بين (عالم ماهو كائن وعالم ما يجب أن يكون)، في الوقت الذي نطلب منهم الالتزام والاحترام و الحماية فإن القانون لا يفرض ذلك صراحة وبوضوح، كما أن الأوامر التي تصدر إليهم تشوبها ضبابية تجعل المتلقي في موقف صعب مع مراعاة المستوى الأكاديمي للأغلبية منهم وطريقة الدراسة في الأكاديميات العسكرية أو الشرطوية .
ومن خلال التجربة والعمل الفعلي نجد أن أغلب انتهاكات حقوق الإنسان (غير المنتظمة ) تعزى إلى الخلفية الثقافية لمرتكبيها وتأريخهم , حيث إن تلقي برامج التدريب لم يعد مؤثرا بشكل كبير في تغيير السلوك الإنساني , وخصوصا إذا كان نفس الشخص قد عمل في ذلك المكان مدة طويلة قبل تلقي التدريب , فلا يمكن أن يتطبع الإنسان بطباع جديدة تغلب التكوين البشري على مدى السنوات المنقضية من عمره , كما أنه لا يجد في ارتكابه الانتهاكات عيبا أو مخالفة فالمحقق يدخل في دوامة فكرية عميقة للاختيار بين تعذيب المتهم أو إساءة معاملته بشكل تعلم وتربى عليه ذلك المحقق للوصول إلى نتائج سريعة يمكن أن تعزز مكانته بين زملائه وتخفف الضغوط عنه , وبين اللجوء إلى أساليب يمكن أن تحفظ الكرامة الإنسانية للمتهم وأساليب علمية لا تقف عند حد الاعتراف للوصول إلى الحقيقة التي تحسم مثل تلك الدعوى الجزائية , ذلك الصراع الفكري العميق يمكن أن يستغرق ثواني أو دقائق أو ربما مجرد رمشة عين ويعود المحقق أو ضابط التحقيق إلى مكنونه العقلي العميق ولا يتاثر بهذا الصراع العميق لكي يبدأ باستخدام أساليبه المعتادة في التحقيق .
ولكي نقف على المشكلة لابد من دراسة شاملة لتحديد أسباب فشل برامج التدريب وتعزيز القدرات وتعزيز حقوق الإنسان في الحد من الانتهاكات وعلى الدول أن تضع سياسات تدريبية وبرامج لتعزيز حقوق الإنسان مبنية على أسس علمية لا تعتمد على العامل الكمي فقط , ففي حالات معينة وتحت ضغط بشاعة الجرائم أو مواجهة تظاهرات ذات كثافة وتنوع واستخدام لأعمال تدمير ممتلكات سوف يفقد الكثير من قوات الأمن أو المحققين تركيزهم الذهني ويلجأون إلى أساليب انتقامية باستخدام نفس اساليب الطرف الاخر , وفي حالات أخرى فإن فرض القانون يستدعي بالنسبة لبعض العاملين على فرض القانون استعراض القوة والضرب دون مبرر وعدم احترام قواعد استخدام القوة أو مبدأ التناسب لا لشيء مرتبط بالأوامر إنما للحاجة البشرية لفرض الذات بأية طريقة .
ومع بروز هذا الظاهرة في دول مختلفة حتى المتقدمة منها لابد لنا من تفسير لآلية وضع حلول يمكن أن توفر استدامة على المدى الطويل وقد تحقق نتائج إذا توافر حسن النية في التنفيذ للاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
– على الدولة أن تنفذ الاتفاقية جملة واحدة لا عن طريق التجزئة فلا يمكن أن تنفذ الاتفاقية دون أن تضع الدولة برامج لتعديل التشريعات واعتماد السياسات ومن بينها التدريب وألا تعتمد على فرضية أن التدريب سوف يحسن الأوضاع ويقلل الانتهاكات المتعلقة بموضوع الاتفاقية , فالإنسان لا يمكن في الكثير من الأحوال أن يلتزم بموضوع ما دون نص قانوني صريح وإذا طلب إليه أثناء التدريب احترام الاتفاقية في حين أن التشريعات النافذة لا تشير إلى الاتفاقية فإنه سيلجأ إلى تنفيذ التشريعات لأنه مسؤول قانونا عنها وليس عن الاتفاقية , كما أن التركيز على التدريب والتعريف وتعزيز الحقوق وترك بقية نصوص الاتفاقية سوف يجعل النص بعيدا عن الواقع .
– أن يكون نشر ثقافة حقوق الإنسان والتدريب عليها ضمن خطط تعتمد على المعايير التي وضعتها الأمم المتحدة بشكل عام للتدريب والتدريس بأن يبدأ من مراحل أولية للأطفال في إطار الدراسة ثم يتقدم ويرتقي في المستوى مع تقدم الدراسة وهذا سيوفر بناء عالي المستوى للشخصية ومكنونا فكريا راقيا لدى الإنسان يجعله متفهما لأهمية حماية وتعزيز احترام الحقوق والحريات وحالما يزج في أطر تنفيذية أو قضائية فإنه سيكون مؤهلا فكريا لهذه المهام.
– أهمية الاختيار الشخصي والنفسي بناء على تاريخ المتقدمين للعمل في وظائف لها تماس مباشر مع حقوق الإنسان وإنفاذ القانون، وقد طبقت فعليا العديد من الدول هذه المعايير ومنها جنوب أفريقيا، لكن من الصعب أن تجد قانونا في دولة ما يخلو من نص يشير إلى التدريب على حقوق الإنسان في أكاديميات الشرطة أو الجيش وشرطا للتوظيف ألا يكون المتقدم من منتهكي الحقوق والحريات وخلو سجله الجنائي من أية سوابق , لكن في الكثير من الأحوال يتم تجاهل بعض تلك الشروط تبعا للحاجات وظروف التعيين .
– أن يكون التدريب فعليا معتمدا على النوع وليس الكم ومراقبا من خبراء ومقيما من قبل مستقلين كما يتم دراسة المناهج الدراسية والتدريبية لمختلف الفئات من خبراء متخصصين.
– أن تعمد الدول إلى تخصيص جزء مهم من برامجها للقيادات الادارية والعسكرية وأن يكون تدريبا فعليا مراقبا ومسيطرا عليه من قبل خبراء.
إن بناء ثقافة حقوق الإنسان تختلف كثيرا عن غيرها فهي لا يمكن أن تقاس بالكم ومخرجاتها لا تتوضح إلا بقياس الأثر من خلال تقليل حجم الانتهاكات ونوعيتها , كما أن عملية البناء تحتاج إلى نفس طويل وإلى خبرة عالية فهي عملية تراكمية قد تستمر 10-15 سنة للوصول إلى بناء شخصية يمكن أن تكون حامية لحقوق الإنسان فعليا .

  • الأكـثر مشاهـدة
  • الـشائـع