كيف حول احتلال فلسطين حياة الناس ومصائرهم من شعب له أرض وجذور ووطن إلى حياة شتات وتشرد؟ وبالمقابل يحل أغراب ليأخذوا منه كل شيء وكيف كان تاريخ ومكان مولهم محدداً لمصائرهم ومصائر أبنائهم، هي نكبة للفلسطيني وميلاد دولة للمستوطن القادم من خلف البحار. ولدن في النكبة فيلم للمخرج الفلسطيني عايد نبعة يحكي قصة نكبة 1948 من زاوية من ولدن فيها وحياتهن ومشاعرهن، مقاربة إنسانية تخوض في جوهر القضية، قضية احتلال فلسطين وإحلال شعب بدل آخر فيها.
ولدن في النكبة.. مصائر ثلاث فلسطينيات وإسرائيليتين
خمس نساء، ثلاث فلسطينيات وإسرائيليتان، القاسم المشترك بينهن أنهن ولدن في 1948، أي العام الذي شهد واحدة من أقسى المآسي بالتاريخ، ولا تشبه مصائرهن مصائر إسرائيليات ولدن في العام ذاته.
يعتبر تاريخ نكبة فلسطين عملة ذات وجهين مختلفين تماما. يصفه الفلسطيني بأنه يوم ضياع الأرض، وبداية تاريخ التشرد واللجوء ونصب الخيام. بينما يعتبره الإسرائيلي يوماً عظيماً يؤرخ لحلم قيام “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين. وانطلاقا من حجم المفارقة الهائلة هذه، جاءت فكرة الفيلم بالنظر إلى عمق المعاني المتناقضة التي يمثلها اليوم ذاته لدى الفلسطينيين والإسرائيليين، كل على حده.
ويبقى السؤال القانوني والإنساني: كيف يحق أن يُطرد الشعب الفلسطيني وتُصادر مقدّراته وأرضه أمام صمت العالم وتجاهله، ليسكن آخرون بيوته في مدنه وقراه حيث يبنون حياتهم على أنقاض شعب آخر كائن هناك؟
انطلاقا من هذا السؤال تطورت فكرة الفيلم وتعمقت أكثر حين اكتشفنا حجم المفارقة الهائل: عندما تقارن حياة سيدات فلسطينيات ولدن عام النكبة مع أخريات يهوديات ولدن في العام ذاته، ما الذي ستستخلصه؟
النتيجة أن كليهما، أي المرأة الفلسطينية والإسرائيلية، تعيشان حياتهما اليومية وهنَّ على ما هنَّ عليه الآن كثمرة لذلك اليوم الذي يؤرخ لولادتهن، أي يوم النكبة. الأولى، تحتفل بعيد ميلادها بكاء وحسرة على ضياع بلدها وتشرد عائلتها وشعبها.
أما الثانية فتحتفي بعيد ميلادها مصادفا لاحتفال دولتها ب”الاستقلال” ولم “شتات اليهود” – على أرض فلسطين- تنفيذاً لقرارات دولة الانتداب بإنشاء وطن قومي لليهود مدعوما من عصبة الأمم فمنظمة الأمم المتحدة بعدها.
لقد اشتغلنا على هذا الفيلم لمدة قاربت السنتين، بين تطوير الفكرة والبحث والتصوير. استغرقنا الكثير من الوقت للوصول إلى الشخصيات، حيث يصادف تاريخ ولادتها ذكرى النكبة، لنحقق شرط تغيير المصير الشخصي والعام على أثر ذلك التاريخ المؤلم لشعب كائن.
ولم يكن من السهل الخوض في كل هذا الكم من المشاعر الفياضة ونحن نطلع على قصص النساء الفلسطينيات اللائي، وإن مررن بكافة أنواع الانتهاكات لحقوقهن وانسانيتهن، لا يزلن ينبضن بالحب وبالحياة ولا يزلن متعلقات بالأمل وبالمستقبل!
قابلنا المرأة التي اعتقلت وعذّبت وصودرت رسائلها الشخصية وصورها وذكرياتها، والمرأة التي اعتقل أولادها أمام عينيها وحرمت فرصة اللقاء والاجتماع بهم، كما المرأة التي فٌرِّقت عن عائلتها ولوحقت أمنياً لأسباب لا معنى لها، بكل ما يمثله ذلك من انتهاك لحقوقها كإنسانة كفلتها القوانين والأعراف الدولية.
كمخرج لهذا العمل، أستطيع القول الآن أن الفيلم أضاف لي الكثير. فالعمل مع النساء يختلف دوما عن العمل مع الرجال. المرأة تضفي على حياتنا الكثير من المعاني المتعلقة بالوجود والحياة، ناهيك عن الشحنات العاطفية والطاقة التي تبثها في المحيط حولنا.
لقد كانت الشخصيات الفلسطينية غاية في التأثير من خلال العمق الوجداني الذي تحمله تواريخ ميلادهن من جهة ومن خلال المصير المأساوي الذي طبع تجاربهن في الحياة من جهة أخرى. في جعبة كل سيدة منهن الكثير من الحكايات، وكان أكثر ما ينتابني عند تواجدي مع النساء الإسرائيليات شعور ممتزج بتساؤل مؤرق: لِمَ يحق لهن أن يكن هنا على حساب النساء الفلسطينيات؟
الآن، وبعد أن انتهينا من الفيلم نأمل أن يتمعن الجميع في هذه المفارقة بعد المشاهدة: كيف لامرأة أن تنزع حق امرأة أخرى في العيش بأمان وحرية؟ كيف لابن امرأة إسرائيلية أن يعتقل ابن امرأة فلسطينية كيفما شاء وأنّى شاء؟ كيف لامرأة أن تخطف الأضواء من امرأة أخرى وكلاهما أمهات؟ كيف لها أن تفعل ذلك وكلاهما عشتار وأفروديت؟
المخرج: عايد نبعة