الحريات العامة وحقوق الإنسان

الحريات العامة وحقوق الإنسان

القائمة البريدية
تاريخ النشر: 06 أغسطس, 2023

أشباحكم تهدد أركاني

تاريخ النشر: 31 أغسطس, 2020

*د محمد تركي العبيدي

           منذ أن وقفت السيدة استيلا دي كارلوتو ورفيقاتها في ساحة مايو أمام المنزل القرنفلي للرئاسة في بوينس آيرس 1977 انطلق الكفاح نحو البحث عن أشباح الأبناء والآباء من معارضي الأنظمة الدكتاتورية بعد أن أصبحت القوى الدكتاتورية العسكرية تسكت أصواتهم وتهدد عوائلهم باستخدام الاختفاء القسري وسيلة لذلك، وتحرك العالم كله نحو حماية حقوق الإنسان لذوي الضحايا والبحث عن مصير أولئك الذين لم يبق من ذكراهم سوى صورة ظل لهم دون محاكمة عادلة ولا وجود لشخصيتهم القانونية ولا اعتراف بوجودهم في سجون السلطات.

        تمخض الكفاح عن مراحل  إنجازات منذ عام 1978 بصدور قرار الجمعية العامة 33/173  بالتعبير عن القلق بشأن التقارير الواردة من أنحاء مختلفة من العالم والمتعلقة بحالات الاختفاء القسري  و الكرب والأسى اللذين تسببهما هذه الاختفاءات، وطالبت الحكومات بأن تعتبر القوات المكلفة بإنفاذ القانون  مسؤولة قانونا عن التجاوزات التي قد تؤدي إلي حالات اختفاء قسري, وأن تضع في اعتبارها مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين، والمبادئ الأساسية بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين وإعلان مبادئ العدل الأساسية المتعلقة بضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، و ضمان التقيد الصارم بمجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، الواردة في مرفق قرارها 43/173 المؤرخ في ديسمبر 1988، وبالمبادئ المتعلقة بالمنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام بإجراءات موجزة، تلك الواردة في مرفق قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي 1989/65 المؤرخ في مايو 1989، وتشكل  الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري وغير الطوعي صاحب الولاية الإنسانية بالبحث عن مصير المفقودين والمختفين قسرا بقرار من لجنة حقوق الإنسان في 1980، ثم صدر في 1992 الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري وغير الطوعي باعتباره أول وثيقة دولية تعرف الاختفاء القسري وتضع الإجراءات لمتابعة مصير الضحايا.

ولم تتوقف الجهود إلا باعتماد الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام 2006 بعد جهود جبارة من مهندسي الاتفاقية وبشكل خاص البروفيسور لويس جوانيه والأستاذ مانفريد نوفاك للوصول إلى اعتراف دولي في سياق الإعداد لمسودة الاتفاقية بالحق في عدم التعرض للاختفاء القسري باعتباره حقا مستقلا من حقوق الإنسان متميزا عن الحقوق الأخرى.

 ويتضمن تعريف الاختفاء القسري العناصر التالية:

– الحرمان من الحرية، إذ يبدأ الاختفاء القسري بسلب حرية الضحية من خلال إلقاء القبض عليه أو احتجازه أو اختطافه رغما عن إرادته، ويعني هذا أن الاختفاء القسري قد يبدأ باحتجاز غير قانوني أو بعملية إلقاء قبض او احتجاز كانت قانونية في البداية أي أن حماية الضحية من الاختفاء القسري يجب أن تتم فور حرمان الشخص من حريته ويجب أن لا تقتصر على حالات الحرمان غير المشروع.

-مرتكبو الجريمة

إن حالات الاختفاء القسري لا تعتبر اختفاء قسريا وفق منطوق الاتفاقية والإعلان إلا عندما يكون مرتكبو الفعل المقصود عناصر فاعلة تابعة للدولة أو أفرادا عاديين أو مجموعات منظمة (مثل المجموعات شبه العسكرية) تتصرف باسم الحكومة أو بدعم منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو برضاها أو قبولها. كما أن على الدولة أن تحقق في الأفعال المشابهة لحالات الاختفاء القسري التي يرتكبها أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون دون إذن الدولة أو موافقتها ولتقديم المسؤولين للمحاكمة.

-رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده وطبقا لتعريف الاختفاء القسري في القانون الدولي فإن أحد العناصر المكونة للجريمة هو رفض الاعتراف بحرمان الضحية من حريتها أو إخفاء مصيرها أو مكان وجودها أو إعطاء أية معلومات عنها وفي الواقع يميز هذا العنصر بين الاختفاء القسري وسائر الجرائم الأخرى مثل الاحتجاز التعسفي.

-حرمان الشخص المختفي من حماية القانون، إذ يبين تعريف الاختفاء القسري في القانون الدولي أن الضحية تحرم من حماية القانون وهذه خصوصية تميز الاختفاء القسري ويترتب عليها وقف تمتع الضحية بجميع حقوقها الإنسانية وحرياتها الأخرى ووضعها في حالة استسلام كاملة ولهذا علاقة وثيقة بحق كل فرد في الاعتراف به كشخص أمام القانون وهو شرط أساس للتمتع بسائر حقوق الإنسان الأخرى، ولو أن الفريق العامل ولجنة حالات الاختفاء القسري ينظران إلى هذا العناصر باعتبارها نتيجة للعناصر الأخرى.

وفي سياق التطبيقات الوطنية فإن بعض الدول تعترف بجريمة الاختفاء القسري بموجب قانون العقوبات وتضع عقوبات صارمة على الفاعلين والمساهمين والمحرضين مستندة في ذلك إلى نصوص الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري أو الاتفاقية ومن بينها أذربيجان، إسبانيا، بلجيكا، بوركينافاسو، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، سلوفاكيا، كرواتيا، كوستاريكا، النرويج وغيرها من الدول.

وتعترف سويسرا بهذه الجريمة في سياق قانون العقوبات العسكري، وهناك مجموعة دول أخرى سنت قانونا خاصا بجريمة الاختفاء القسري مثل الأرجنتين، الأورغواي، البرتغال، وغيرها. ودول تعترف بهذه الجريمة في سياق قانون المصادقة على نظام روما، وهي في الغالب الدول التي تتبنى النظام القانوني الأنكلوسكسوني مثل (المملكة المتحدة، أستراليا، إيرلندا، نيوزلندا، وكندا. كما تعترف بهذا الوصف كل من قبرص، ألمانيا، هولندا، كينيا، الفلبين).

ومن خلال التجارب التي مررت بها في سياق التعامل مع ملف الاختفاء القسري في الدول العربية وجدت أن هناك تخوفا كبيرا لدى دبلوماسيات تلك الدول حتى من الإشارة إلى هذا الوصف سواء في إطار الفريق العامل أو لجنة حالات الاختفاء القسري وهي تشبه إلى حد كبير ( مجازا) غرس النعامة رأسها في الرمال، وهو نابع من تأثير الحقب العسكرية والقيادات الأمنية في تلك الدول التي مازالت تحكم سيطرتها، ربما لأسباب متعلقة بالعقيدة العسكرية والأمنية بأن احتجاز الأشخاص والتحقيق مهم بمختلف طرق التحقيق سوف يؤدي إلى الوصول إلى الاعترافات التي لا يمكن تحصيلها بالطرق العادية للتحقيق كما أن البعض منها لا يعترف بالجريمة لضعف الثقافة القانونية وعدم التمييز بين العمل العسكري والأمني ومعايير حقوق الإنسان وهذا نابع من خلفية أن السلطات العسكرية تحمي رجالها في مختلف الظروف .

ومن خلال العمل مع اللجنة والتعاون مع الفريق العامل تلقينا مخلفات حقب طويلة من الانتهاكات تعجز الدول العربية حتى في ظل الانفتاح عن حلها فمثلا ما زال العراق والجزائر ولبنان من بين أكثر الدول التي سجلت بحقها طلبات اختفاء قسري في ظروف مختلفة مثل الحروب الأهلية أو أعمال الإرهاب أو الحقب الدكتاتورية العسكرية، في حين أن دولا أخرى ترفض مطلقا التحدث بالموضوع ودولا أخرى خرجت بثورات فاكتشفت الفظائع ولا تجد نصوصا قانونية للتعامل مع تلك الجرائم مثل أغلب الدول العربية، وهناك دول تمر بهذه الظروف في ظروف مختلفة ومستمرة مثل سوريا واليمن و مناطق الصحراء.

          وفي المجمل نقول إن الدول العربية بمجموعها تتهرب من الاتفاقية نحو الأمام ولا تشير لها حتى في سياق جهودها في مجال حقوق الإنسان باستثناء الدول التي أصبحت طرفا بالاتفاقية مثل المغرب وتونس والعراق وموريتانيا، لكنها تجد صعوبات كبيرة في تطبيقها على الصعيد الوطني تشريعيا أو إجرائيا. ومن الطبيعي أن تعمل تلك الدول على إعداد تشريعات تنظم التنفيذ على الصعيد الوطني لهذه الاتفاقيات وصدر منها القانون اللبناني (ليست طرفا في الاتفاقية) ومازالت الأخرى تبذل جهودا في تمرير مشاريع قوانينها.

ويمكن القول إن أشباح المختفين قسرا ما زالت هي التحدي الأكبر لهذه الدول العربية بما يهدد أركانها فهؤلاء المختفون وإن لم يعد لهم وجود حي في الغالب لكن ذكراهم ورفاتهم وأقاربهم ومعاناتهم وحقوقهم مازالت تؤرق الحكام وتهدد عروشهم التي بنيت على جماجم المعارضين.

———————————-

*خبير مستقل وعضو سابق في لجنة حالات الاختفاء القسري

  • الأكـثر مشاهـدة
  • الـشائـع